تغطية أحمد السروجي
افتتحت ملك رشدي الجلسة الثانية في الدومنيكان بالتعريف بالدكتور جون درويل، مدير معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان وهو متخصص في كتاب سيبويه، وحاصل على الدكتوراه في هولندا عن سيبويه، ويعيش في مصر منذ ٢٠٠٢. أما بخصوص مكتبة المعهد الدومنيكي، فهي مكتبة متخصصة في الدراسات الإسلامية، حيث تحتوي على ١٦٠ ألف كتاب في التراث الإسلامي، وهي مفتوحة لطلبة الدراسات العليا.
المخطوطات كمادة علمية
بدأ جون دوريل كلامه بالإشارة إلى أننا ح نستخدم المخطوطات كمادة علمية في البحث اللغوي. يشرح درويل أن سيبويه هو أول نحوي عربي قديم – فارسي الأصل – وصل كتابه إلينا. هناك مئات من النحويين قبله لكن لا نعرف عنهم الكثير. سيبويه أول من وصل لنا كتابه كاملًا. توفى سيبويه نهاية القرن الثاني الهجري، كما أن أقدم مخطوطة له تعود للقرن الخامس الهجري، وهو ما يطرح أسئلة منهجية كثيرة عندما نقول «سيبويه بيقول»، طب إزاي؟ إحنا ما عندناش وصول لكتاب سيبويه نفسه.
ملحوطة منهجية ضرورية: أولًا، الباحثين معندهمش مخطوطة بخط سيبويه. ثانيًا، معظم العلماء في التراث المُبكر مكنوش بيكتبوا. التلامذة هما اللي بيكتبوا ورا الشيخ. لذا، لازم نشيل من دماغنا إنه كلام سيبويه، لأنه غالبًا كلام تلاميذه. في المادة المُقدمة، لازم ندرك وجود طبقات تاريخية فيها حيث أنه هناك ٣٠٠ سنة ما بين أقدم مخطوطة ووفاته. الكتب القديمة في التراث بتوصل لنا عن طريق الروايات؛ تلاميذ سمعوا عن شخص عن شخص (العنعنة). بخصوص رواية كتاب سيبويه، فهي وصلتنا عن طريق أثر لرواية مُنَقحة (recension)، ولها روايتين، واحدة شرقية وأخرى غربية (أندلسية) (الكتاب له مئة مخطوطة، نصفها في إسطنبول والنصف الآخر في أماكن أخرى في العالم).
النحويون القدامى كانوا بيكتبوا نسخهم بهوامش وتصحيحات، فمثلًا أبو علي الفارسي كان عنده نسخته الذي كتبها بيده، بناءً على رواية بن سراج ثم أخذ مخطوطة الزجّاج وقام بمقابلة. المقابلة هي قيام شخص بقراءة مخطوطة قدام الشخص ولما يسمع حاجة غريبة يكتبها في مخطوطته ويعيد تحريرها؛ يا يكتبها في الهامش يا يمسحها. هكذا كانت حالة التدوين وكان عند كل عالم نحوي نسخته الخاصة، يسافر بعيدًا للجلوس مع شيخ لعمل مقابلة مع نسخته. يشرح درويل أننا لا نمتلك دليل تاريخي ثابت كما أن العلاقة بين أبو حسن الأخفش وسيبويه غير واضحة. هناك الكثير من الغموض والإشاعات والأساطير عن بداية كتاب سيبويه.
أما بخصوص المتن، فالمخطوطات كلها يا المتن فيها شرقي وهوامش أندلسية يا العكس. سألت حينها مشاركة إن كان يمكن الخلط بين المتن والهوامش؟ أجاب درويل أنه حصل كتير إن الهوامش من المقابلات دخلت المتن في نسخة أخرى. يشير درويل أن أفضل تحقيق لكتاب سيبويه هي لديرينبور حيث كان هدفه هو تحقيق المتن. كما أن المشتغلين في الهوامش قليلين: بيشتغلوا على المتن المطبوع فما يعرفوش أساسًا إن فيه هوامش. يضيف درويل أن النحويين واعيين وجود روايات مختلفة ولا يحاولون عمل نسخة جديدة من الروايتين الشرقية والغربية. وأخيرا، العَالِم النحوي الذي ينسخ نسخته الشخصية عارف أن هناك هوامش لسا ستُتكتب في المستقبل فيسيب مكان فاضي خوالي المتن.
قصة مخطوطة Ambrosiana
يتابع درويل حديثه عن المخطوطات، موضحًا أنه خلال عمل الدكتوراه، اكتشفت الباحثة الفرنسية جونفيف أومبير (Geneviève Humbert) أن متن مخطوطة رقم X56 Sup في مكتبة Ambrosiana في ميلانو لا شرقي ولا غربي. ما نعرفه عن المخطوطة أنها كانت ملك أبو الحسن أحمد بن نصر. نعرف إيه عنه؟ ما بين الستة أو السبعة أنفار اسمهم أبو الحسن أحمد بن نصر في واحد كان عايش في الكوفة وتلميذه كان أبو عمرو الزاهد. إذا هل دي نسخته؟ لو كده، المتن بتاعها كوفي عكس النسخ الأخرى. أما فمخطوطة Ambrosiana فهي ترجع للنصف الأول من القرن الخامس الهجري.
سأل أحد الحضور «متى استقر علم النحو؟». كان رد درويل أن القرن الأول الهجري مجهول معندناش مصادر منه. كل اللي نعرفه عنه اتكتب مئة سنة بعديها. الشعوب بيكرهوا الفراغ لازم يملوه فسيبويه ما نعرفش عنه حاجات كتيرة. المؤرخ لازم يشوف المادة نفسها. فبناخد المادة دي كرواية مش كحقيقة تاريخية. علم النحو ما استقرش لكن فيه أساطير كتيرة بتحكي بأثر رجعي العرب كانوا بيقولوا إيه وإزاي بيحاولوا يملوا الفراغ التاريخي الموجود. كتاب سيبويه من آخر القرن التاني الهجري بيقدم صورة متاكملة للنحو وده غريب ومعندناش دليل تاريخي واضح على بدايات علم النحو لكن نص سيبويه دقيق جدًا. فيه كذه نظريات تخص استقرار علم النحو من ضمنها النظرية اليونيانية والنظرية السوريانية والنظرية الفقهية. النحو اللي بندرسه دلوقتي متاخد من ابن السراج مش سيبويه ولا المبّرد. بالنسبة لابن السراج، اللغة تقاسيم: المنظور ده للنحو بيخلي فيه ممنهجة و يبقى فيه جداول (تقاسيم التقاسيم). أما سيبويه فما يعرفش الفكرة دي، النحو بالنسبة له رحلة ذهنية داخل اللغة. أما النظرية الفقهية فهي الأقوى في رأي درويل الذي يشبّه فيها الفعل باعتباره الملك في البلاط الملكي، أقوى الكلمات على الإطلاق. فمثلًا يعتبر أن الفعل المتعدي على ثلاث مفاعيل بيعمل اللي عاوزه. بينما أضعف اسم في اللغة، فهي الأصوات: ليس له حقوق وعليه كل الالتزامات. مثلًا «صه» والتي تشير إلى السكوت أقوى من كلمة «مكتبة» وذلك لأنها جملة كاملة.
أما نظرية بن السراج، فيقول درويل أنها غالبًا تكوّنت مع دخول الفلسفة اليونانية الحضارة الإسلامية ومعها دخلت فكرة التقاسيم اللغوية في القرن الرابع الهجري بينما شيخه المبرد يرى أن اللغة سطح. أما فكرة سيبويه فمرتبطة بالإعراب حيث يعتبر أن الضمة أقوى من الفاتحة أقوى من الكسرة. يعترف درويل أن كلام سيبويه غامض كما أنه لا يشرح نظريته ويحتاج إلى تفسير. أما مخطوطة الجلد (X56 Sup في مكتبة الأمبروزيانا في ميلانو)، فقد كانت في أيادي مختلفة كتبت المتن، شطبت، أضافت الإعراب، وكتبت الهامش. يشرح درويل أنه من المهم أن يشير شخص متخصص في المخطوطة إلى اليد الأولى والتي تلتها. هذه المخطوطة فيها ثلاث مقابلات. السؤال المطروح الآن، وصل البحث لإيه؟ متن الكتاب حصله progressive stabilization، أي تم تأكيده تدريجيا. كما أن شرح السيرافي أثّر على المتن. بعض الشارحين لكتاب سيبويه مكنش عنده الكتاب في ايديهم لكن عندهم نسخة السيرافي والهيئة العامة للكتاب عندها مجلد جديد لسا ما كملش للآخر للسيرافي، حيث ح تلاقوا فيه ثلاث سطور من متن سيبويه معاها ثلاث صفحات شرح السيرافي. المخطوطات كلها ما عدا (ميلانو) اتأثرت بمتن السيرافي. مخطوطة (ميلانو) وصلتها متن ما بعد السيرافي حيث فيه طبقات القديمة من الأيادي، المتن معقد وموجز بينما في نسخة السيرافي مفهومة. المسألة كانت تصغير أسامي الأيام أو الأوقات مثل أمس (أميّس) فكلمة «أمس» لا توصف. فالسؤال المطروح هل فيه «أمس» صغير؟ سيبويه يرفض الفكرة، أما المبّرد لم يجد مشكلة مثال أحد (أحيّد).
حان وقت النشاط الجماعي: قسّم درويل الحضور إلى أربع مجموعات مختلفة وامد كل مجموعة بصورة من مخطوطة Ambrosiana وطلب منهم الآتي:
أولاً: كتابة الأيادي المختلفة الموجودة في الهامش والمتن
ثانيًا: الإشارة إلى كل مرحلة لوحدها واليد الموازية لها (للنص أربع أيادي)
ثالثًا: الإشارة إلى الفرق بين مختلف الأيادي نحويًا: ماذا نفهم من قراءة كل يد؟
اجتمعت الفرق مرة أخرى بعد ساعة من العمل الجماعي على قراءة مختلفة الأيادي الموجودة بالمخطوطة وشرح كل مجموعة منطقهم في التفكير. أشارت مختلف الفرق إلى محاولتهم لقراءة الأربع أيادي واكتشاف الاختلافات الرئيسية الموجودة بين الأيادي وكيفية تشكيلها لمعنى النص. اليد الأولى لا تتضمن هامش كما ليس بها كلمة «ليسا»، بينما تتضمن اليد الثانية كل ما سبق. أشارت مجموعة أخرى إلى اليد الثالثة التي أضافت التشكيل. خرجت مجموعة بنظرية وجود تقسيم ما بين (اليوم والساعة والسهر والليلة) وبين (زيد) في النص الأصلي. أشارت مجموعة إلى عدم اتساق سيبويه مع نفسه وللتأكد من ذلك رجعنا إلى النظرية القانونية. النتيجة النهائية لذلك النقاش هو أن (ليسا) هنا في المخطوطة هي الأصح وذلك لأن الأمس والغد كلمات لا توصف بينما الأسماء توصف.
أثنى درويل على نقاش المجموعات وأضاف أن الاسم هنا المقصود به في المخطوطة هو اسم علم. كما أشار إلى أن المسألة اللغوية المطروحة في المخطوطة تخص أسماء مثل «أمس» و«غد» والتي انتهى المطاف إلى أنه لا يمكن تحقيرهم لأنهم ليسوا أسماء علم مثل «زيد». يتساءل درويل لماذا تقارن المخطوطة بين (أمس/غد) وهما ليسا أسماء علم مع (زيد)؟ يشير درويل إلى أنه هناك نظرية ضاعت الآن تنص على وجود نوعين من أسماء العلم: اسم علم عام وخاص. هنا: اسم علم عام مثل (محمد) واسم علم خاص مثل (مكة/أمس/غد). يرجع درويل لفكرة اتساق سيبويه من عدمه ويشرح أن سيبويه غير منهجي ويستخدم عدة أدوات لغوية في فهم والتفاعل مع اللغة. يختتم درويل حديثه بالإشارة إلى أن اليد الأولى موجزة بينما المتن القانوني (أي المتن بعد تأثير شرح السيرافي عليه) مُوسّع ومُفسّر، كما أن النسخة الثانية لليد الثانية المتعارف عليها حاليًا يمكن اعتبارها تفسير داخلي داخل المتن.